فصل: سنة أربع وخمسمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عود جاولي إلى السلطان:

لما انهزم جاولي سقاوو قصد الرحبة، فلما قاربها بات دونها في عدة فوارس، فاتفق أن طائفة من عسكر الأمير مودود، الذين أخذوا الموصل منه، أغاروا على قوم من العرب يجاورون الرحبة، فقاربوا جاولي ولا يشعرون به، ولو علموا لأخذوه.
فلما رأى الحال كذلك، علم أنه لا يقدر أن يقيم بالجزيرة، ولا بالشام، ولا يقدر على شيء يحفظ به نفسه، ويرجع إليه، ويداوي به مرضه، غير قصد باب السلطان محمد عن رغبة واختيار، وكان واثقاً بالأمير حسين بن قتلغتكين، فرحل من مكانه وهو خائف حذر، قد أخفى شخصه وكتم أمره، وسار إلى عسكر السلطان، وكان بالقرب من أصبهان، فوصل إليه في سبعة عشر يوماً من مكانه لجده في السير، فلما وصل المعسكر قصد الأمير حسيناً، فحمله إلى السلطان، فدخل إليه وكفنه تحت يده، فأمنه، وأتاه الأمراء يهنونه بذلك، وطلب منه السلطان الملك بكتاش بن تكش، فسلمه إليه، فاعتقله بأصبهان.

.ذكر الحرب بين طغتكين والفرنج والهدنة بعدها:

في هذه السنة كانت حرب شديدة بين طغتكين أتابك والفرنج، وسببها أن طغتكين سار إلى طبرية، وقد وصل إليها ابن أخت بغدوين الفرنجي، ملك القدس، فتحاربا واقتتلا، وكان طغتكين في ألفي فارس، وكثير من الرجالة، وكان ابن أخت ملك الفرنج في أربعمائة فارس وألفي رجل.
فلما اشتد القتال انهزم المسلمون، فترجل طغتكين، ونادى بالمسلمين، وشجعهم، فعادوا الحرب، وكسروا الفرنج، وأسروا ابن أخت الملك، وحمل إلى طغتكين، فعرض طغتكين عليه الإسلام، فامتنع منه، وبذل في فداء نفسه ثلاثين ألف دينار، وإطلاق خمسمائة أسير، فلم يقنع طغتكين منه بغير الإسلام، فلما لم يجب قتله بيده، وأرسل إلى الخليفة والسلطان الأسرى، ثم اصطلح طغتكين وبغدوين ملك الفرنج على وضع الحرب أربع سنين، وكان ذلك من لطف الله تعالى بالمسلمين، ولولا هذه الهدنة لكان الفرنج بلغوا من المسلمين، بعد الهزيمة الآتي ذكرها، أمراً عظيماً.

.ذكر انهزام طغتكين من الفرنج:

في هذه السنة، في شعبان، انهزم أتابك طغتكين من الفرنج.
وسبب ذلك أن حصن عرقة، وهو من أعمال طرابلس، كان بيد غلام للقاضي فخر الملك أبي علي بن علي بن عمار، صاحب طرابلس، وهو من الحصون المنيعة، فعصى على مولاه، فضاق به القوت، وانقطعت عنه الميرة، لطول مكث الفرنج في نواحيه، فأرسل إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، وقال له: أرسل من يتسلم هذا الحصن مني، قد عجزت عن حفظه، ولأن يأخذه المسلمون خير لي دنيا وآخرة من أن يأخذه الفرنج. فبعث إليه طغتكين صاحباً له، اسمه إسرائيل، في ثلاثمائة رجل، فتسلم الحصن، فلما نزل غلام ابن عمار منه رماه إسرائيل، في الأخلاط، بسهم فقتله، وكان قصده بذلك أن لا يطلع أتابك طغتكين على ما خلفه بالقلعة من المال.
وأراد طغتكين قصد الحصن للاطلاع عليه، وتقويته بالعساكر، والأقوات، وآلات الحرب، فنزل الغيث والثلج مدة شهرين، ليلاً ونهاراً، فمنعه، فلما زال ذلك سار في أربعة آلاف فارس، ففتح حصوناً للفرنج، منها حصن الأكمة. فلما سمع السرداني الفرنجي بمجيء طغتكين، وهو على حصار طرابلس، توجه في ثلاثمائة فارس، فلما أشرف أوائل أصحابه على عسكر طغتكين انهزموا، وخلوا ثقلهم ورحلهم ودوابهم للفرنج، فغنموا، وقووا به، وزاد في تجملهم.
ووصل المسلمون إلى حمص، على أقبح حال من التقطع، ولم يقتل منهم أحد لأنه لم تجر حرب، وقصد السرداني إلى عرقة، فلما نازلها طلب من كان بها الأمان، فأمنهم على نفوسهم، وتسلم الحصن، فلما خرج من فيه قبض على إسرائيل، وقال: لا أطلقه إلا بإطلاق فلان، وهو أسير كان بدمشق من الفرنج، منذ سبع سنين، ففودي به وأطلقا معاً.
ولما وصل طغتكين إلى دمشق، بعد الهزيمة، أرسل إليه ملك القدس يقول له: لا تظن أنني أنقص الهدنة للذي تم عليك من الهزيمة، فالملوك ينالهم أكثر مما نالك، ثم تعود أمورهم إلى الانتظام والاستقامة، وكان طغتكين خائفاً أن يقصده بعد هذه الكسرة فينال من بلده كل ما أراد.

.ذكر صلح السنة والشيعة ببغداد:

في هذه السنة، في شعبان، اصطلح عامة بغداد السنة والشيعة، وكان الشر منهم على طول الزمان، وقد اجتهد الخلفاء، والسلاطين، والشحن في إصلاح الحال، فتعذر عليهم ذلك، إلى أن أذن الله تعالى فيه، وكان بغير واسطة.
وكان السبب ذي ذلك أن السلطان محمداً لما قتل ملك العرب صدقة، كما ذكرناه، خاف الشيعة ببغداد، أهل الكرخ وغيرهم، لأن صدقة كان يتشيع هو وأهل بيته، فشنع أهل السنة عليهم بأنهم نالهم غم وهم لقتله، فخاف الشيعة، وأغضوا على سماع هذا، ولم يزالوا خائفين إلى شعبان، فلما دخل شعبان تجهز السنة لزيارة قبر مصعب بن الزبير، وكانوا قد تركوا ذلك سنين كثيرة، ومنعوا منه لتقطع الفتن الحادثة بسببه.
فلما تجهزوا للمسير، اتفقوا على أن يجعلوا طريقهم في الكرخ، فأظهروا ذلك، فاتفق رأي أهل الكرخ على ترك معارضتهم، وأنهم لا يمنعونهم، فصارت السنة تسير أهل كل محلة منفردين، ومعهم من الزينة والسلاح شيء كثير، وجاء أهل باب المراتب، ومعهم فيل قد عمل من خشب، وعليه الرجال بالسلاح، وقصدوا جميعهم الكرخ ليعبروا فيه، فاستقبلهم أهله بالبخور والطيب، والماء المبرد، والسلاح الكثير، وأظهروا بهم السرور، وشيعوهم حتى خرجوا من المحلة.
وخرج الشيعة، ليلة النصف منه، إلى مشهد موسى بن جعفر وغيره، فلم يعترضهم أحد من السنة، فعجب الناس لذلك، ولما عادوا من زيارة مصعب لقيهم أهل الكرخ بالفرح والسرور، فاتفق أن أهل باب المراتب انكسر فيلهم عند قنطرة باب حرب، فقرأ لهم قوم: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} إلى آخر السورة.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة عاد منصور بن صدقة بن مزيد إلى باب السلطان، فتقبله وأكرمه وكان قد هرب، بعد قتل والده، إلى الآن، والتحق أخوه بدران بن صدقة بالأمير مودود الذي أقطعه السلطان الموصل، فأكرمه وأحسن صحبته.
وفيها، في نيسان، زادت دجلة زيادة عظيمة، وتقطعت الطرق، وغرقت الغلات الشتوية والصيفية، وحدث غلاء عظيم بالعراق، بلغت كارة الدقيق الخشكار عشرة دنانير إمامية، وعدم الخبز رأساً، وأكل الناس التمر والباقلاء الخضراء، وأما أهل السواد فإنهم لم يأكلوا جميع شهر رمضان، ونصف شوال، سوى الحشيش والتوت.
وفيها، في رجب، عزل وزير الخليفة أبو المعالي هبة الله بن المطلب، ووزر أبو القاسم علي بن أبي نصر بن جهير.
وفيها، في شعبان، تزوج الخليفة المستظهر بالله ابنة السلطان ملكشاه، وهي أخت السلطان محمد، وكان الذي خطب خطبة النكاح القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد النيسابوري، الحنفي، وكان المتولي لقبول العقد نظام الملك أحمد بن نظام الملك، وزير السلطان، بوكالة من الخليفة، وكان الصداق مائة ألف دينار، ونثرت الجواهر والدنانير، وكان العقد بأصبهان.
وفيها توفي مجاهد الدين بهروز شحنكية بغداد، وكان سبب ذلك أن السلطان محمداً كان قبض على أبي القاسم الحسين بن عبد الواحد، صاحب المخزن، وعلى أبي الفرج بن رئيس الرؤساء، واعتقلهما عنده، ثم أطلقهما الآن، وقرر عليهما مالاً يحملانه إليه، فأرسل مجاهد الدين بهروز لقبض المال، وأمره السلطان بعمارة دار المملكة، ففعل ذلك وعمر الدار، وأحسن إلى الناس، فلما قدم السلطان إلى بغداد ولاه شحنكية العراق جميعه، وخلع على سعيد بن حميد العمري، صاحب جيش صدقة، وولاه الحلة السيفية، وكان صارماً، حازماً، ذا رأي وجلد.
وفيها، في شوال، ملك الأمير سكمان القطبي، صاحب خلاط، مدينة ميافارقين بالأمان، بعد أن حصرها وضيق على أهلها عدة شهور، فعدمت الأقوات بها، واشتد الجوع بأهلها فسلموها.
وفي هذه السنة، في صفر، قتل قاضي أصبهان عبيد الله بن علي الخطيبي بهمذان، وكان قد تجرد، في أمر الباطنية، تجرداً عظيماً، وصار يلبس درعاً حذراً منهم، ويحتاط، ويحترز، فقصده إنسان أعجمي، يوم جمعة، ودخل بينه وبين أصحابه فقتله، وقتل صاعد بن محمد بن عبد الرحمن أبو العلاء قاضي نيسابور، يوم عيد الفطر، قتله باطني، وقتل الباطني، ومولده سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وسمع الحديث، وكان حنفي المذهب.
وفي هذه السنة سار قفل عظيم من دمشق إلى مصر، فأتى الخبر إلى ملك الفرنج، فسار إليه وعارضه في البر، وأخذ كل من فيه، ولم يسلم منهم إلا القليل، ومن سلم أخذه العرب.
وفيها، في فصح النصارى، ثار جماعة من الباطنية في حصن شيزر على حين غفلة من أهله في مائة رجل، فملكوه، وأخرجوا من كان فيه، وأغلقوا بابه، وصعدوا إلى القلعة فملكوها، وكان أصحابها بنو منقذ قد نزلوا منها لمشاهدة عيد النصارى، وكانوا قد أحسنوا، إلى هؤلاء الذين أفسدوا، كل الإحسان، فبادر أهل المدينة الباشورة، فأصعدهم النساء في الحبال من الطاقات، وصاروا معهم، وأدركهم الأمراء بنو منقذ، أصحاب الحصن، فصعدوا إليهم، فكبروا عليهم وقاتلوهم، فانخذل الباطنية، وأخذهم السيف من كل جانب، فلم يفلت منهم أحد، وقتل من كان على مثل رأيهم في البلد.
وفيها وصل إلى المهدية ثلاثة نفر غرباء، فكتبوا إلى أميرها يحيى بن تميم يقولون: إنهم يعملون الكيمياء، فأحضرهم عنده، وأمرهم أن يعملوا شيئاً يراه من صناعتهم، فقالوا: نعمل النقرة، فأحضر لهم ما طلبوا من آلة وغيرها، وقعد معهم هو والشريف أبو الحسن، وقائد جيشه واسمه إبراهيم، وكانا يختصان به، فلما رأى الكيماوية المكان خالياً من جمع ثاروا بهم، فضرب أحدهم يحيى بن تميم على رأسه، فوقعت السكين في عمامته فلم تصنع شيئاً، ورفسه يحيى فألقاه على ظهره، ودخل يحيى باباً وأغلقه على نفسه، فضرب الثاني الشريف فقتله، وأخذ القائد إبراهيم السيف فقاتل الكيماوية، ووقع الصوت، فدخل أصحاب الأمير يحيى فقتلوا الكيماوية، وكان زيهم زي أهل الأندلس، فقتل جماعة من أهل البلد على مثل زيهم، وقيل للأمير يحيى: إن هؤلاء رآهم بعض الناس عند المقدم بن خليفة، واتفق أن الأمير أبا الفتوح بن تميم، أخا يحيى، وصل تلك الساعة إلى القصر في أصحابه وقد لبسوا السلاح، فمنع من الدخول، فثبت عند الأمير يحيى أن ذلك بوضع منهما، فأحضر المقدم بن خليفة، وأمر أولاد أخيه فقتلوه قصاصاً، لأنه قتل أباهم، وأخرج الأمير أبا الفتوح وزوجته بلارة بنت القاسم بن تميم، وهي ابنة عمه، ووكل بهما في قصر زيادة بين المهدية وسفاقس، فبقي هناك إلى أن مات يحيى، وملك بعده ابنه علي سنة تسع وخمسمائة، فسير أبا الفتوح وزوجته بلارة إلى ديار مصر في البحر، فوصلا إلى إسكندرية، على ما نذكره إن شاء الله.
وفيها، في المحرم، قتل عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد أبو المحاسن الروياني الطبري، الفقيه الشافعي، ومولده سنة خمس عشرة وأربعمائة، وكان حافظاً للمذهب، ويقول: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من قلبي.
وفيها، في جمادى الآخرة، توفي الخطيب أبو زكرياء يحيى بن علي التبريزي، الشيباني، اللغوي، صاحب التصانيف المشهورة، وله شعر ليس بالجيد.
وفيها، في رجب، توفي السيد أبو هاشم زيد الحسني، العلوي، رئيس همذان، وكان نافذ الحكم، ماضي الأمر، وكانت مدة رئاسته لها سبعاً وأربعين سنة، وجده لأمه الصاحب أبو القاسم بن عباد، وكان عظيم المال جداً، فمن ذلك أنه أخذ منه السلطان محمد في دفعة واحدة سبع مائة ألف دينار لم يبع لأجلها ملكاً ولا استدان ديناراً، وأقام بعد ذلك بالسلطان محمد، عدة شهور، في جميع ما يريده، وكان قليل المعروف.
وفيها، في ذي الحجة، توفي أبو الفوارس الحسن بن علي الخازن، الكاتب المشهور بجودة الخط، وله شعر منه: من المديد:
عنت الدنيا لطالبها، ** واستراح الزاهد الفطن

عرف الدنيا، فلم يرها ** وسواه حظاً الفتن

كل ملك نال زخرفها ** حظه مما حوى كفن

يقتني مالاً، ويتركه، ** في كلا الحالين مفتتن

أملي كوني على ثقة ** من لقاء الله مرتهن

أكره الدنيا، وكيف بها، ** والذي تسخو به وسن

لم تدم قبلي على أحد، ** فلماذا الهم والحزن؟

وقيل توفي سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وقد ذكر هناك. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وخمسمائة:

.ذكر ملك الفرنج طرابلس وبيروت من الشام:

في هذه السنة، حادي عشر ذي الحجة، ملك الفرنج طرابلس.
وسبب ذلك أن طرابلس كانت قد صارت في حكم صاحب مصر ونائبه فيها، والمدد يأتي إليها منه، وقد ذكرنا ذلك سنة إحدى وخمسمائة. فلما كانت هذه السنة، أول شعبان، وصل أسطول كبير من بلد الفرنج في البحر، ومقدمهم قمص كبير اسمه ريمند بن صنجيل ومراكبه مشحونة بالرجال، والسلاح، والميرة، فنزل على طرابلس، وكان نازلاً عليها قبله السرداني ابن أخت صنجيل، وليس بابن أخت ريمند هذا، بل هو قمص آخر، فجرى بينهما فتنة أدت إلى الشر والقتال، فوصل طنكري صاحب أنطاكية إليها، معونة للسرداني، ووصل الملك بغدوين، صاحب القدس، في عسكره، فأصلح بينهم، ونزل الفرنج جميعهم على طرابلس، وشرعوا في قتالها، ومضايقة أهلها، من أول شعبان، وألصقوا أبراجهم بسورها، فلما رأى الجند وأهل البلد ذلك سقط في أيديهم، وذلت نفوسهم، وزادهم ضعفاً تأخر الأسطول المصري عنهم بالميرة والنجدة.
وكان سبب تاخره: أنه فرغ منه، والحث عليه، واختلفوا فيه أكثر من سنة، وسار، فردته الريح، فتعذر عليهم الوصول إلى طرابلس ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ومد الفرنج القتال عليها من الأبراج والزحف، فهجموا على البلد وملكوه عنوة وقهراً يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من السنة، ونهبوا ما فيها، وأسروا الرجال، وسبوا النساء والأطفال، ونهبوا الأموال، وغنموا من أهلها من الأموال، والأمتعة، وكتب دور العلم الموقوفة، ما لا يحد ولا يحصى، فإن أهلها كانوا من أكثر أهل البلاد أموالاً وتجارة، وسلم الوالي الذي كان بها، وجماعة من جندها كانوا التمسوا الأمان قبل فتحها، فوصلوا إلى دمشق، وعاقب الفرنج أهلها بأنواع العقوبات، وأخذت دفائنهم وذخائرهم في مكامنهم.

.ذكر ملك الفرنج جبيل وبانياس:

لما فرغ الفرنج من طرابلس سار طنكري، صاحب أنطاكية، إلى بانياس، وحصرها، وافتتحها، وأمن أهلها، ونزل مدينة جبيل، وفيها فخر الملك بن عمار، الذي كان صاحب طرابلس، وكان القوت فيها قليلاً، فقاتلها إلى أن ملكها في الثاني والعشرين من ذي الحجة من السنة بالأمان، وخرج فخر الملك بن عمار سالماً.
ووصل، عقيب ملك طرابلس، الأسطول المصري بالرجال، والمال، والغلال، وغيرها، ما يكفيهم سنة، فوصل إلى صور بعد أخذها بثمانية أيام للقضاء النازل بأهلها، وفرقت الغلال التي فيه والذخائر في الجهات المنفذة إليها صور، وصيدا، وبيروت.
وأما فخر الملك بن عمار فإنه قصد شيزر، فأكرمه صاحبها الأمير سلطان بن علي بن منقذ الكناني، واحترمه، وسأله أن يقيم عنده، فلم يفعل، وسار إلى دمشق، فأنزله طغتكين صاحبها، وأجزل له في الحمل والعطية، وأقطعه أعمال الزبداني، وهو عمل كبير من أعمال دمشق، وكان ذلك في المحرم سنة اثنتين وخمسمائة.

.ذكر الحرب بين محمد خان وساغربك:

في هذه السنة عاد ساغربك وجمع العساكر الكثيرة من الأتراك وغيرهم وقصد أعمال محمد خان بسمرقند وغيرها، فأرسل محمد إلى سنجر يستنجده، فسير إليه الجنود، واجتمع معه أيضاً كثير من العساكر، وسار إلى ساغربك فالتقوا بنواحي الخشب واقتتلوا فانهزم ساغربك وعساكره وأخذت السيوف منهم مأخذها وكثر الأسر فيهم والنهب، فلما فرغوا من حربهم وأمن محمد خان من شر ساغربك عاد العسكر السنجري إلى خراسان فعبروا النهر إلى بلخ.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في المحرم، سير السلطان وزيره نظام الملك أحمد بن نظام الملك إلى قلعة ألموت لقتال الحسن بن الصباح ومن معه من الإسماعيلية، فحصروهم، وهجم الشتاء عليهم فعادوا ولم يبلغوا منه غرضاً.
وفيها، في ربيع الآخر، قدم السلطان إلى بغداد، وعاد عنها في شوال من السنة أيضاً.
وفيها، في شعبان، توجه الوزير نظام الملك إلى الجامع، فوثب به الباطنية، فضربوه بالسكاكين، وجرح في رقبته، فبقي مريضاً مدة، ثم برأ، وأخذ الباطني الذي جرحه فسقي الخمر حتى سكر، ثم سئل عن أصحابه، فأقر على جماعة بمسجد المأمونية، فأخذوا وقتلوا.
وفيها عزل وزير الخليفة، وهو أبو المعالي بن المطلب، ووزر بعده الزعيم أبو القاسم بن جهير، فخرج ابن المطلب من دار الخليفة مستتراً هو وأولاده واستجار بدار السلطان.
وفيها جهز يحيى بن تميم، صاحب إفريقية، خمسة عشر شينياً وسيرها إلى بلاد الروم، فلقيها أسطول الروم، وهو كبير، فقاتلوهم، وأخذوا ست قطع من شواني المسلمين، ولم ينهزم بعد ذلك ليحيى جيش في البحر والبر.
وسير ابنه أبا الفتوح إلى مدينة سفاقس والياً عليها، فثار به أهلها، فنهبوا قصره، وهموا بقتله، فلم يزل يحيى يعمل الحيلة عليهم، حتى فرق كلمتهم، وبدد شملهم، وملك رقابهم فسجنهم، وعفا عن دمائهم وذنوبهم.
وفيها توفي الأمير إبراهيم ينال، صاحب آمد، وكان قبيح السيرة، مشهوراً بالظلام، فجلا كثير من أهلها لجوره، وملك بعده ولده، وكان أصلح حالاً منه.
وفيها، في ثامن ذي القعدة، ظهر في السماء كوكب من الشرق له ذؤابة ممتدة إلى القبلة، وبقي يطلع إلى آخر ذي الحجة، ثم غاب. ثم دخلت:

.سنة أربع وخمسمائة:

.ذكر ملك الفرنج مدينة صيدا:

في هذه السنة، في ربيع الآخر، ملك الفرنج مدينة صيدا، من ساحل الشام.
وسبب ذلك: أنه وصل في البحر إلى الشام ستون مركباً للفرنج مشحونة بالرجال والذخائر مع بعض ملوكهم ليحج البيت المقدس وليغزو بزعمه المسلمين، فاجتمع بهم بغدوين ملك القدس، وتقررت القاعدة بينهم أن يقصدوا بلاد الإسلام، فرحلوا من القدس، ونزلوا مدينة صيدا ثالث ربيع الآخر من هذه السنة، وضايقوها براً وبحراً.
وكان الأسطول المصري مقيماً على صور، فلم يقدر على إنجاد صيدا، فعمل الفرنج برجاً من الخشب، وأحكموه، وجعلوا عليه ما يمنع النار عنه والحجارة، وزحفوا به، فلما عاين أهل صيدا ذلك ضعفت نفوسهم، وأشفقوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت، فأرسلوا قاضيها ومعه جماعة من شيوخها إلى الفرنج، وطلبوا من ملكهم الأمان فأمنهم على أنفسهم، وأموالهم، والعسكر الذي عندهم، ومن أراد المقام بها عندهم أمنوه، ومن أراد المسير عنهم لم يمنعوه، وحلف لهم على ذلك، فخرج الوالي، وجماعة كثيرة من أعيان أهل البلد، في العشرين من جمادى الأولى إلى دمشق، وأقام بالبلد خلق كثير تحت الأمان، وكانت مدة الحصار سبعة وأربعين يوماً.
ورحل بغدوين عنها إلى القدس، ثم عاد إلى صيدا، بعد مدة يسيرة، فقرر على المسلمين الذين أقاموا بها عشرين ألف دينار، فأفقرهم، واستغرق أموالهم.

.ذكر استيلاء المصريين على عسقلان:

كانت عسقلان للعلويين المصريين، ثم إن الخليفة الآمر بأحكام الله استعمل عليها إنساناً يعرف بشمس الخلافة، فراسل بغدوين ملك الفرنج بالشام، وهادنه، وأدى إليه مالاً وعروضاً، فامتنع به من أحكام المصريين عليه، إلا فيما يريد من غير مجاهدة بذلك.
فوصلت الأخبار بذلك إلى الآمر بأحكام الله، صاحب مصر، وإلى وزيره الأفضل، أمير الجيوش، فعظم الأمر عليهما، وجهزا عسكراً وسيراه إلى عسقلان مع قائد كبير من قواده، وأظهرا أنه يريد الغزاة، ونفذا إلى القائد سراً أن يقبض على شمس الخلافة إذا حضر عندهم، ويقيم هو عوضه بعسقلان أميراً. فسار العسكر، فعرف شمس الخلافة الحال، فامتنع من الحضور عند العسكر المصري، وجاهر بالعصيان، وأخرج من كان عنده من عسكر مصر خوفاً منهم.
فلما عرف الأفضل ذلك خاف أن يسلم عسقلان إلى الفرنج، فأرسل إليه وطيب قلبه، وسكنه، وأقره على عمله، وأعاد عليه إقطاعه بمصر.
ثم إن شمس الخلافة خاف أهل عسقلان، فأحضر جماعة من الأرمن واتخذهم جنداً، ولم يزل على هذه الحال إلى آخر سنة أربع وخمسمائة، فأنكر الأمر أهل البلد، فوثب به قوم من أعيانه، وهو راكب، فجرجروه، فانهزم منهم إلى داره، فتبعوه وقتلوه، ونهبوا داره وجميع ما فيها، ونهبوا بعض دور غيره من أرباب الأموال بهذه الحجة، وأرسلوا إلى مصر بجلية الحال إلى الآمر والأفضل، فسرا بذلك، وأحسنا إلى الواصلين بالبشارة، وأرسلا إليه والياً يقيم به، ويستعمل مع أهل البلد الإحسان وحسن السيرة، فتم ذلك، وزال ما كانوا يخافونه.

.ذكر ملك الفرنج حصن الأثارب:

في هذه السنة جمع صاحب أنطاكية عساكره من الفرنج، وحشد الفارس والراجل، وسار نحو حصن الأثارب، وهو بالقرب من مدينة حلب بينهما ثلاثة فراسخ، وحصره، ومنع عنه الميرة، فضاق الأمر على من به من المسلمين، فنقبوا من القلعة نقباً، قصدوا أن يخرجوا منه إلى خيمة صاحب أنطاكية فيقتلوه، فلما فعلوا ذلك وقربوا من خيمته استأمن إليه صبي أرمني، فعرفه الحال، فاحتاط، واحترز منهم، وجد في قتالهم، حتى ملك الحصن قهراً وعنوة، وقتل من أهله ألفي رجل، وسبى وأسر الباقين.
ثم سار إلى حصن زردنا، فحصره، ففتحه، وفعل بأهله مثل الأثارب، فلما سمع أهل منبج بذلك فارقوها خوفاً من الفرنج، وكذلك أهل بالس، وقصد الفرنج البلدين فرأوهما وليس بهما أنيس، فعادوا عنهما.
وسار عسكر من الفرنج إلى مدينة صيدا، فطلب أهلها منهم الأمان، فأمنوهم وتسلموا البلد، فعظم خوف المسلمين منهم، وبلغت القلوب الحناجر، وأيقنوا باستيلاء الفرنج على سائر الشام لعدم الحامي له والمانع عنه، فشرع أصحاب البلاد الإسلامية بالشام في الهدنة معهم، فامتنع الفرنج من الإجابة إلا على قطيعة يأخذونها إلى مدة يسيرة، فصالحهم الملك رضوان، صاحب حلب، على اثنين وثلاثين ألف دينار، وغيرها من الخيول والثياب، وصالحهم صاحب صور على سبعة آلاف دينار، وصالحهم ابن منقذ، صاحب شيزر، على أربعة آلاف دينار، وصالحهم علي الكردي، صاحب حماة، على ألفي دينار، وكانت مدة الهدنة إلى وقت إدراك الغلة وحصادها.
ثم إن مراكب أقلعت من ديار مصر، فيها التجار ومعهم الأمتعة الكثيرة، فوقع عليها مراكب الفرنج، فأخذوها، وغنموا ما مع التجار، وأسروهم، فسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد، مستنفرين على الفرنج. فلما وردوا بغداد اجتمع معهم خلق كثير من الفقهاء وغيرهم فقصدوا جامع السلطان، واستغاثوا، ومنعوا من الصلاة، وكسروا المنبر، فوعدهم السلطان بإنفاذ العساكر للجهاد، وسير من دار الخلافة منبراً إلى جامع السلطان. فلما كان الجمعة الثانية قصدوا جامع القصر بدار الخلافة، ومعهم أهل بغداد، فمنعهم حاجب الباب من الدخول، فغلبوه على ذلك، ودخلوا الجامع، وكسروا شباك المقصورة، وهجموا إلى المنبر فكسروه، وبطلت الجمعة أيضاً، فأرسل الخليفة إلى السلطان في المعنى يأمره بالاهتمام بهذا الفتق ورتقه، فتقدم حينئذ إلى من معه من الأمراء بالمسير إلى بلادهم، والتجهز للجهاد، وسير ولده الملك مسعوداً مع الأمير مودود، صاحب الموصل، وتقدموا إلى الموصل ليلحق بهم الأمراء ويسيروا إلى قتال الفرنج، وانقضت السنة، وساروا في سنة خمس وخمسمائة، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.